Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
عادل الزبيري
عادل الزبيري
Archives
17 février 2006

رحيل رجل من خارج المكان

لم ألتقي به يوما، إلا أني ظللت حافظا لصورته وهو يحاضر في الجامعة الأمريكية، في القاهرة، في العام الماضي... أول مرة أستمع لأفكاره، ولو عبر التلفزيون... أستمع لرجل من "خارج المكان"... كان يستعيد الذكريات، كلحظات خاطفة من ماض صار أمسا، وانتهى... إلا عنده ما يزال قضية تحركه بقوة المثقف، ورجل عربي شرب من معين العروبة، وأضاف لها من العقلانية "هناك" في ما وراء الأطلسي... "هناك" عاش للدفاع عن من جعلته الأقدار لأرض فلسطين ابنا، ولأرض الميعاد سليلا... إلى أن رحل عن الدنيا... لم تهزمه فكرة وما انتصر عليه صاحب قلم، بل كان السبب: مرض خبيث


تتواجد "هيلدا"، أم إدوارد سعيد على مساحة واسعة من مذكراته، فهو يقول إن علاقته بها أشبه بعلاقة الحواضر الاستعمارية بالمركز. في المقابل يظهر "وديع"، الأب، صاحب الحضور الطاغي، والكتوم، يظهر بسلطته التي تبقي الابن إدوارد حائرا بين لذة الانعتاق أو طمأنينة البقاء في كنف سلطة الأب.
وعبر سنواته الأولى، ظل إدوارد فترة من طفولته يحاول إيجاد هوية له عبر التطابق مع هويات الآخرين، وأتاحت له الأيام لاحقا الانتقال للقدس والعيش فيها لعارض صحي عانى منه والده، كانت تجربة مدهشة. هو الذي لم يعرف جو العائلة الكبير، مكنته تلك الفترة من ملامسة شيء من الانتماء وملاحظة التركيب السكاني لفلسطين لما قبل 1948، إلا أن تلك الفترة تبددت سريعا بعودة عائلته إلى قاهرة الكنانة، لاحقا بعد هذا التاريخ، تتبدل القاهرة لتصبح منفى قسريا، وليس اختيارا كما كان.

التلمــــيذ المشاغب
ختم إدوارد حياته التعليمية في القاهرة في "فيكتوريا كوليدج"، بفرعها في القاهرة. أما بداية مرحلة المراهقة، فكانت بداية تشكيل وعي رافض للثقافة الإنجليزية لدى "المراهق فكريا"، مما تسبب له في اضطرابات متعددة، قادته لأن يطرد مؤقتا من المدرسة، ليجد "الناس الطيبة"، وحواري مصر ذاك الزمان ملجأ تقيه برودة الفصل، ولتعلمه درسا آخر

وكان عليه الرحيل عام1956 إلى بلاد العم "سام"، قاطعا مجالا جغرافيا وحضاريا، منتقلا من عالم عربي يعاني ما عاناه ولا أزال، إلى بلاد تبحث عن ثروات العالم. وكما تنص "قوانين الهجرة"، يتحتم على الفتى اليافع الوافد من بلاد النيل، البقاء فيها لخمسة أعوام كاملة للحصول على الجنسية. وهنا بدأت رحلة التكوين لادوارد، بابتعاده عن أسرته، ودخوله مدرسة "ماونت هيرمون" الداخلية. وفي تلك الفترة يبدأ في اكتشاف وتكوين ذاته، لم يكن إحساسه بالعزلة أو الغربة طارئا أو جديدا، فهو إحساس أساسي لدى إدوارد. وعند تخرجه من تلك المدرسة، التحق بجامعة "برنستون" لدراسة "اللسانيات"، ولتمتد رحلة التعلم إلى

"هارفارد" للدراسات العليا وبعدها جامعة "كامبردج

وليتجدد اللقاء بين نسيم النيل أو جبال لبنان وإدوارد، ومع لقاء كل صيف، كانت تنازعه آنذاك ميوله الأدبية، وقدر يناديه للامساك بتجارة والده. وكانت تلك السنوات سجلا أسود ـ عروبويا ـ حروب: هزائم، ونكبات صوبت نظر إدوارد نحو جذوره، وجعلته منهمكا بالقراءة خارج إطار التعليم الأكاديمي. وإلى أن يلتحق بوظيفته في جامعة "كولومبيا"، كان "الرجل" قد حسم أمر منفاه واستقر "هناك" في نيويورك

إدوارد سعيد الذي خبر اللغة العربية والفرنسية، وتحدث الإنجليزية منذ طفولته لتكون في أحيان كثيرة هي لغة البيت البرجوازي الفلسطيني في مصر، حاز على اعتراف دولي لم يسبق أن وصله كاتب فلسطيني أو عربي. فهو إلى جانب كونه أستاذ أدب ناجح في واحدة من كبريات الجامعات في الولايات المتحدة المريكية. فإن أوسع أعماله تداولا هي التي تخرج عن مضمار تخصصه، والتي هي حصيلة ما يسميه إدوارد بجهد "الهاوي" غير المقيد إلى إجراءات مؤسساتية، أو نظم راسخة، بل المناوئ لمثل هذه النظم وتلك الإجراءات

"المثقف الــــملتزم"
إدوارد أيضا هو ذاك الناقد الأدبي المدهش في إجتهاداته، في زمن ذيوع النظريات الأدبية، وابتكار دروب قراءة لا تعزل النص الأدبي عن عالمه. وهو أيضا "المنظر العلماني"، الذي نادرا ما يخالط علمانيته جنوح غير عقلاني أو خرافي، هو الرائد الجدالي لما يسمى بدراسات "ما بعد الكولونيالية". وضمن هذا الإطار نجد مؤلف "الاستشراق" والثقافة والإمبريالية

هو إلى جانب هذا وذاك، "المثقف الملتزم" على طول خط فكره وحياته، الذي طوال ثلاثين عاما، وفي مدينة مثل عاصمة المال والأعمال والسياسية الخارجية للعم سام: نيويورك. حيث يعمل ويقيم، وحيث إلى عهد قريب كان يوجه سهام قلمه بالنقد للدولة العبرية، ودفاعا عن الفلسطينيين. لم يبرح ناطقا شجاعا في سبيل حق الفلسطينيين بتمثيل أنفسهم وتقرير مصيرهم

و انبرى لادوارد ـ الباحث عن الفكرة التائهة بين لحظات زمن عروبي شتت أبناءه وظل يبكي ضياع الأرض ـ انبرى له معلموه في مدارس أجنبية، بريطانية وأمريكية، ذائعة الصيت بنظمها المتصلبة وسبل تعليم لا تعرف الهوادة أو اللين. فنادرا ما أظهر استعدادا للامتثال والطاعة، فلم يكن عنده حس بذاته، فضلا عن افتقاره إلى المقدرة على "الاستنساخ الأوتوماتيكي" لما كان يتوجب عليه استنساخه، مما دعا إحدى مدرساته في مدرسة القاهرة للأطفال الأمريكيين مرة إلى مخاطبته قائلة: "إنني لم أرى أحدا كذا غير قادر على التركيز، عديم الاعتبار مهملا...". وهو الذي سيعود لذكريات تلك السنون في "في غير محلة"، كواحد مما أبدع فيه الراحل، ففيه يروي معظم الحوادث التي شكلت وجدان حياته الباكرة، "في غير محله" يقول ادوارد: "هو سجل لعالم منسي بالأساس أو مفقود

حمل إدوارد القضية الفلسطينية كفكرة أساسية في كناشه عليه الذود عنها بقوة في وقت سادت الأفكار والمرجعيات الغربية، فإن مهمة التوكيد على القومية للفلسطينيين، على أنهم أمة مظلومة وأن كفاحها كفاح في سبيل استقلال قومي، وليس إرهابا. فـ "القضية الفلسطينية" حسب إدوارد سعيد هي: "حركة سياسية قيض البناء من خلال التشديد على تاريخ فلسطين متعددة الأديان والأعراق، وهدفها هو الاندماج التام للعرب الفلسطينيين بالأرض، والأهم، بالعملية السياسية التي لواحد وعشرين عاما، إما أنها استبعدتهم أو جعلتهم أكثر فأكثر سجناء لا خلاص لهم

... ومـــات المقدســــي
المرض لم يمهل ابن سعيد طويلا، بعد أن حرمه من حلق لحيته كل صباح، ليرحل إدوارد سـعيد، الكاتب والمفكر والمناضل الفلسطيني، بعيـداً عن المقدس، في نيويورك، في خريف العام الحالي الثالث بعد الألفين، عن عمر يناهز الـ 68 سنة، قضى الجزء الأخير منها يصارع مرض "سرطان الدم " بجرأة وبطولة. وإلى جانبه وقوفه الصلب في معاركه الفكرية والسياسية، لم يمنعه المرض "الخبيث" من مواصلة الكتابة، مقالات وأبحاثا، بل حفزه وفجر ما في دواخله من ينابيع إبداع، فوضع تحت تأثيره ومرارة تحمله في خريفه كتبا هي من مؤلفاته البارزة، مؤلفات تنتمي إلى ربيع ابن سعيد الفكري

الراحل ابن القدس، وبها رأى النور في عام 1935 وغادرها سنة 1947، عاما واحدا قبل إعلان الدولة الصهيوينة فوق التراب الفلسطيني المحتل، بدعم أمريكي وغربي واضح، ليعيش في "المنفى" متنقلا بين مرافئ فوانيس الثقافة والفكر حينها في العالم العربي، بيروت والقاهرة... ويعتبر إدوارد من المعارضين لسياسة "السلطة الوطنية الفلسطينية" منذ اتفاق "غزة أريحا أولا" أو المعروف أيضا باتفاقية "أوسلو" لسنة، 1993 واعتبرها "أداة استسلام العرب"، رغم تمتعه بعضوية المجلس الوطني الفلسطيني طيلة 14 عاماً قبل استقالته منه العام 1991

وكان صاحب نزعة طليعية وثورية وحداثية في كل المجالات التي كتب فيها. كما كان ناقداً أدبيا. ومتخصصا في الموسيقى. فهو الذي كتب "مسألة فلسطين" عام 1979، "بعد السماء الأخيرة" في عام 1986. وصدر له في العام 1991 كتابه "أطناب موسيقي". أما العام 1993 فشهد إصداره لتحفته الفكرية "الإمبريالية الثقافية". أما "الاستشراق" فصدر عام 1978، وترجم إلى 26 لغة. ومن كتبه الأخرى التي تناولت القضية الفلسطينية: "المسألة الفلسطينية"، و"ما بعد المساء الأخيرة"، و"لوم الضحايا"، و"سياسات الطرد". وأما في مؤلف مذكراته "خارج المكان"، فلن يجد سوى نسيج من الشخصيات غير المتجانسة التي شكلت عالم إدوارد في القاهرة وبيروت وغيرها من المدن. ويتحدث عنها كمذكرات كان الحافز الرئيسي لها هو الحاجة إلى "مد جسر ما بين المسافة الزمانية والمكانية الفاعلة"، ما بين حياته اليوم وحياته في ذلك الوقت، أي ما قبل العام 1967


بحثا عن... مستقـــر
يقول ابن سعيد إنه عاش جل حياته مصحوبا بإحساس تعدد هويات، غالبا ما كانت على نزاع ما بعضها البعض، بما يدعو إلى القلق، وإنه لطالما راودته الرغبة بأن يكونوا جميعا، هو وعائلته: "جميعا عربا أو جميعا أوروبيين وأمريكيين، أو جميعا مسيحيين وأرثوذكس، أو جميعا مسلمين، أو جميعا مصريين.. وهلم جرا

فضياع فلسطين، ونشأة الدولة العبرية، وصعود القومية العربية، والاستيلاء العسكري على الحكم في مصر، جعل الحياة تدريجيا أقل يسرا للمقيمين الأوروبيين الذين ـ حتى ذلك الوقت ـ كانوا يتمتعون بامتيازات حرم منها أكثرية المصريين، والقلق السياسي الذي ما فتئ يتهدد لبنان منذ أواخر الخمسينات، ومن ثم اندلع أخيرا، عام 1975، على صورة عقد ونصف من حرب أهلية أكلت ما أتت عليه من أخضر ويابس في أرض الجبل

هذه وغيرها من الحوادث السياسية بالغة الخطورة، جعلت المنطقة مكانا "غير مضياف"، لمن كانوا مثل أهل سعيد الذين ألفوا الإقامة في القاهرة في ظل الانتداب البريطاني. واعتادوا القيام بزيارات منتظمة إلى فلسطين، وقضاء عطلة الصيف في لبنان، وبدلا مما كانت عليه المنطقة من مكان يسهل التنقل فيه، أضحت في غضون عقود قليلة ساحة كثيرة الجبهات يتقرر بموجب الهوية التي يحملها المرء أين يمكنه البقاء والى أين يمكنه الرحيل. وفي وقت عصيب كهذا، أخذ الفراغ الذي ما انفك يعكر صفو ابن سعيد، يتعاظم أثرا في حياة أهله

حتى وقوع حرب الخامس من يونيو عام 1967، وفي المناسبات التي كانت تتعرض فيها هويته إلى المواجهة، كان إدوارد يسارع إلى الرد بأنه من لبنان، فتبدو هذه الإجابة وكأنها الملائمة لفرد يرغب في إعفاء نفسه من سوء عاقبة الشعبية المتدنية للعرب في الأوساط الغربية ـ الأمريكية، في المنطقة التي أقام الكاتب فيها منذ سن السادسة عشرة، بما يكفل له الحصول على الجنسية الأمريكية طبقا لما نصت عليه قوانين البلد


"لست أمريكيا... البتة"
كان وديع سعيد ـ الأب ـ قد عاش في الولايات المتحدة لعقد من الأعوام، تمكن خلاله من الحصول على جنسية أمريكية، بعد أن انضوى في صفوف الجيش الأمريكي وحارب فيه خلال الحرب العالمية الأولى. فما عدا اكتسابه ميولا كبيرا للمطبخ الأمريكي، يخبرنا إدوارد سعيد بأن والده كان يصر على ضرورة تناول "وجبة ديك حبش" في مناسبة "عيد الشكر" جريا على احتفال الأمريكيين، وذلك لـ "أسباب تتعلق بالتقاليد"، غير أن ذلك، على ما أدرك ادوارد ورواه، ليس بكاف لكي تكون أمريكيا، بل وأقل بكثير من أن يجعلك تحس بأنك أمريكي، ذلك أن شعورا عميقا ـ وغير مرير ـ لن يفتأ أن يساورك ويفضي بك إلى الإقرار بأنك لست في الحقيقة ما تتظاهر به

لست أمريكيا البتة


ففي الزمالك، وسط أبناء الطبقة العليا، أصحاب الانتماءات المتفاوتة والأهداف المادية الواضحة نشأ ادوارد. في مجتمع يعد الحضور المصري فيه مقتضبا لبعض الباشاوات، أو مختزلا لسائقين وبوابين وخدم. فظل في منطقة معزولة عن مجتمع القاهرة ومعاناة بعض من أبنائها، زاد من ذلك الانفصال عن زمكانه الطفولي آنذاك تواجده الدائم في المدارس الإنجليزية أو الأمريكية

وبين المنافي المتعددة التي تنقّل بينها، لم يكن إدوارد يملك يقينا سوى الموسيقى، وربما كان من الممكن أن يصبح عازف بيانو لا بأس به، لكن وكما كان يصفه والداه "فهو يبذل قصارى جهده".
"لقد فقدنا كل شيء.. فلسطين"، كان قصارى ما أفصح عنه "وديع سعيد" إلى ابنه المستطلع جلية الأمر في ذاك اليوم الأسود الحالك على ما اتى بعده من تاريخ من يسمون عربا، وهو كلام من أب اعتاد الصمت وملاحظة ما يمر أمام ناظره من أحداث. غير أن صدوره عن رجل كتوم كتمانا يثير الفضول، فضلا عن افتخاره بكونه مواطنا أمريكيا، ما يفصح بما كان يخفي ويبطن وديع الأب، من مشاعر شاء أن يبقيها سرا عن ابنه ادوارد، الساكن خارج المكان

Publicité
Commentaires
Publicité