Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
عادل الزبيري
عادل الزبيري
Archives
8 décembre 2005

لعبة الانتظار

"طق.. طق.. طق.. طق…"

أرهقت الرصيف جيئة وذهابا، تجمدت الدماء في عروقها من برودة الجو. ملت النظر في ساعتها اليدوية. أوشكت على تكسير حذائها ذي الكعب العالي من شدة التوتر. طال انتظارها ساعة من الزمن. وعدها أن يكون عندها بسيارته بعد رمشة عين، ثم أنهى المكالمة الهاتفية.
أعادت النظر، وحدقت في شاشة هاتفها المحمول عساها تتلقى حبل نجاة من هذه الحيرة… هل تواصل انتظارها، أم تعود أدراجها…؟؟

"طق.. طق.. طق.. طق…"
رددت عبارات السخط والكراهية في أعماقها، سمعت صوتا يتعالى من أعماقها، يحثها على النقمة والتمرد. تمنت حضوره، تفتح له الباب، توكل له سبا وشتما. ترمي له نقوده، وتعود لغرفتها في الحي الجامعي…

"طق.. طق.. طق.. طق…"
بدت سيارة متثاقلة في ـ سيرها ـ تبحث عن وجه مألوف. تسمرت فجأة لما لمحت صاحبة الكعب العالي والبنطال البني. فـتح الباب وخرج رجل ممشوق القوام. اقتحم صفيره صمت المكان، صفير إعجاب بفتاته.
صرخت "س" في وجهه محتجة على تأخره. تفهم انتفاضتها وأجاب ببرودة:" اهدئي عزيزتي، كنت أعد الليلة لك". وبدت على وجهه ابتسامة عريضة. هدأت براكين أعصابها قليلا وقد تملق لها بحلو العبارات لاستمالة خاطرها وإبعاد أمواج الشك عنها…
انطلقت السيارة مسرعة على إيقاع موسيقى صاخبة. واخترق هيكلها المعدني خيوط الضباب الهادئ في الجوار. ومارسا معا لعبة اغتصاب حرمة المكان وقداسة المدينة الجامعية…

ـ متى تناولني بقية المبلغ… عزيزي "ع" ؟
ـ غدا صباحا… لا تقلقي… أمامنا ليلة جميلة نقضيها سوية…
والكثير من المفاجآة…
ـ حسنا… ليكن ما تريد…

* * * * * *

رن الهاتف المحمول للآنسة "س"، كان زبونا يبحث عن مـأنسة لليلته الباردة. ردته بلطف. ووعدته أن تكون له غدا، شريطة أن يجزل لها العطاء.
حضر "ع" من غرفة النوم باحثا عن فتاته الدلول.

ـ من كان على الخط… وفي هذه الساعة من الليل؟
ـ صديقتي تسأل عن بعض المراجع.
ـ طيب… لنعد لغرفتنا.

عانقها وأطبق قبلة على شفتيها. وضمها إليه. صدرت عنه تنهيدة سعادة بفتاته الدلول. هنأ نفسه على صيده لهذه المرة. فالليلة كبيرة والضيفة أعرف الناس بالواجب…
تسللت أشعة الشمس بهدوء لغرفة النوم، انسلت "س" من السرير واتجهت صوب الحمام. بعد حمام ساخن، لبست ثيابها وعدلت من حال شعرها. تناولت بقية المبلغ من "ع". شكرته ووعدها بلقاء قريب، لنسج خيوط جلسة حميمية أخرى، حبلى بكل السعادة...
حمدت الله على عدم ضياع ساعة انتظارها هباءا. وأعادت حساب النقود قبل أن تضعها في حقيبتها اليدوية.

* * * * * *

رحبت بـ "س" صويحباتها في الحي الجامعي على مائدة الغذاء. سألنها عن الحال وعن نهاية الأسبوع. حكت لهم كيف قضت يومين رائعين في منزل خالتها بسلا. وعبرت عن ارتياحها لبيت خالتها وسعادتها بوجودها قريبة منها.
التقت "ن" والشمس تميل للرحيل، عبر لها عن شوقه لها وحاجته للجلوس معها. أجابت "س" دعوة حبيبها وزميل الدراسة "ن" لتناول العشاء سوية.
لام "س" على عدم إجابته رغم مهاتفته المتكررة لها. اتهمها بعدم الإخلاص له. ابتسمت ووقفت وعدلت من وضع معطفها وخاطبته:" أتعلم فيما أفكر… أريد مكبرا للصوت ومنصة… أصعد وأقول للعالم… أنا "س": أعلمكم جميعا أني أحب رجلا… اسمه "ن"…".
صفق بحرارة وبدأ في الضحك حتى سقطت دمعة من عينه لتستقر في الصحن. اندهشت لدموعه المنهمرة، أبدى لها إعجابه الشديد ب "ن" ـونه وعبر لها عن حبه الزائد يوما بعد يوم. تناول يدها وشرع في تدليك أناملها بتودد. أحس بالدنيا تزداد اتساعا. وبرغبة ملحة في الطيران عاليا.. عاليا.. عاليا جدا…
التقت عيونهما. توقف الكلام. أحاطهما الصمت بجلاله. وبدأت لغة العيون. كلاهما يرى في الآخر فردوسه المنتظر…

* * * * * *

رن الهاتف المحمول لـ "س"، على حين غرة جاءت هذه المكالمة. لعن "ن" المتصل، من سرق منه حبيبته…
استأذنت "س" حبيبها "ن" في الانصراف بدعوى استدعائها من طرف زميلاتها في السكن الجامعي لأمر استجد. تمنى لها حظا سعيدا وودعها. دخلت الغرفة. غيرت ثيابها. أخذت كفايتها من مستحضرات التجميل...
فور وصولها لرصيفها المعلوم، وجدت سيارة في الانتظار. كانت سيارة أجرة...

* * * * * *

"طق.. طق.. طق.. طق…"
رحب بها السائق، وتمنى لها ليلة سخية مع زبون اليوم. ناولها ورقة دون عليها عنوان الفيلا. ومناها بسخاء صاحب العنوان. شكرته على اهتمامه وناولته ورقة نقدية خضراء. قبل أن تغادر السيارة، طلبت منه الحضور غدا صباحا قبل الساعة الثامنة لإعادتها للحي الجامعي. وعدها بأن يكون في انتظارها قبل الثامنة بنصف ساعة هنا في نفس المكان.

"طق.. طق.. طق.. طق…"
وجدت المكان موحشا، لا وجود للمارة. لا تسمع فيه إلا نباح كلاب الحراسة. تأكدت من العنوان المدون عندها في الورقة. دنت من الباب ورنت الجرس. جاءها "صوت" من المجيب الآلي يسأل من الطارق. وفور سماع اسم "س". فتح الباب وطلب منها "صوت" المجيب الآلي الدخول… "السيد "ر" في الانتظار"…
وجدت سمينا بكرش مدورة، فشل في إخفائها رغم إخفاء جسده في جلباب حريري أبيض. واضعا طاقية بيضاء اللون على رأسه. وأنامله تداعب سبحة. هلل بوصولها وأجزل لها عبارات الترحيب. وعرض عليها شرب نخب هذه الليلة معا. ناولها كأس شراب أحمر اللون وسيجارة شقراء.
"حقا من وصف لي جمالك… ماكان إلا صادقا… تستحقين كل خير… أنت ورب الكعبة آية…"قالها "ر" وقطرات الشراب مختلطة بلعابه تنزل على رداءه الأبيض. نزلت عليها الكلمات بلسما وتمنت أن يكون زبونا كريما معها.

* * * * * *

"طق.. طق.. طق.. طق…"
شكرت موظفة البريد على مساعدتها لإرسال الحوالة المالية لأسرتها. مسحت وجهها وشكرت الله على نجاحها في تدبير ثمن العلاج لوالدتها. طريحة الفراش منذ عامين. أمسكت هاتفها المحمول وركبت رقم أختها…
ـ ألو…
ـ نعم… من؟ "س"…
ـ تصلكم النقود اليوم… توجهي لمركز البريد لسحب المبلغ. اتفقنا…
ـ أجل… "س". كيف حالك؟ ومتى تحضرين لزيارتنا؟
ـ أكون عندكم الأسبوع المقبل، أيام قبل العيد الكبير. اشتقت لكم كثيرا…
سلام.

"طق.. طق.. طق.. طق…"
فاجأها "ن" فور مغادرتها البريد. بادرها بالكلام وقد أهلت أساريره للقاؤها. سألها عن مكالمة أمس وما كان ورائها. قصت عليه ما جرى:" زميلتي في الغرفة أضاعت مفتاحها... فكان علي لزاما الالتحاق بها... حتى لا تبقى في الخارج...".
مازحها "ن":" هل وصلت التدويرة من الدار؟". ضحكا معا بصوت عال، وعزمته على فنجان قهوة. طلب منها مهلة لقضاء غرض له في المصلحة...
فور خروجه من مركز البريد، رأى "س" تتحدث لشخص تبدو عليه سمات الثراء والأبهة. أثار الأمر في نفسه الشكوك. فاجأهما وألقى التحية، سمع "س" تعد الرجل بالاتصال به في حالة أي مستجد. سارع بطرح السؤال عن هوية الرجل. طلبت منه الانتظار قليلا. وتحت إلحاح منه، قالت له:" إنه ابن حينا... التقيت به صدفة... فأراد الاطمئنان علي... هيا لنذهب... والقهوة على حسابي هذه المرة...".
جلسا وجها لوجه. التقت العيون وتلمس يدها بدفء. بدأ في الكلام عن الحياة الجامعية ومشاكل الدراسة. شاطرته الرأي حول ما يمارسه أساتذة الكلية من ابتزاز وسمسرة. عدم اقتناء كتاب الأستاذ يساوي الرسوب في المادة...
وعدها بالسفر سوية الأسبوع المقبل لايفران لقضاء يوم هناك. ترددت "س" قليلا، قبل أن تعبر عن موافقتها تحت ضغط "ن"...
نادى على النادل، طلب منه لائحة الطعام. ناولها القائمة وهو يقول:" أما الغذاء... على حسابي... تفضلي واختاري لك غداءا فاخرا...".
* * * * * *

"طق.. طق.. طق.. طق…"
تعبت من الانتظار. كان البرد قارسا. لعنت مقدمة نشرة الأرصاد الجوية التي تنبأت بانخفاض مهم في درجات الحرارة خلال الليل. تعبت من قطع الرصيف ذهابا وإيابا. منت نفسها بحضوره بعد قليل. تنصت لسكون المكان ودقات عقارب ساعتها اليدوية. تمنت زبونا عابرا تعوض به. ألقت نظرة على ساعتها، وجدتها الواحدة. انتظرت ساعتين دون جدوى.

"طق.. طق.. طق.. طق…"
عطست ثلاث مرات من شدة البرد. قررت الاستسلام ورجوع القهقرى. ارتدت معطفها ذو الفرو البني. أحست بدفء يتسرب إليها. شعرت بدرجة عصبيتها ترتفع. شتمت زبونها الذي لم يحضر. وسبت كل رجال العالم، إلا والدها، ترحمت عليه لأنه شجعها على إكمال تعليمها العالي بالرباط...

"طق.. طق.. طق.. طق…"
دفعت باب العمارة السكنية للحي الجامعي وجدته موصدا. دقت. دقت. أعادت المحاولة دون نتيجة. لم تقوى على نداء الحارس مخافة انكشاف أمرها. داقت الأرض بها. توقفت آلة تفكيرها. ورددت السؤال:" الآن.. إلى أين ؟"...
في هذا الوقت المتأخر جدا من الليل، أدبرت خارجة للشارع. عادت لرصيفها وقد التهمها الليل الصامت. عسى الحظ يبتسم لها من جديد... ويكون في الانتظار زبون يسترها من برودة الجو ويستضيفها الليلة. أو تقضي ما تبقى من ساعات الليل في العراء. فراشها الأرض، وغطائها السماء. وبينهما زبون لم يحضر بعد... ومالها إلا لعبة الانتظار وحظ مجهول عليها تجريبه...

"طق.. طق.. طق.. طق…"
لم يعد لها سوى أن تلتهم الرصيف بين رواح وغدو... وتواصل لعبة الانتظار...

"طق.. طق.. طق.. طق…"

Publicité
Commentaires
Publicité